الثلاثاء، 2 يونيو 2015

صوم معظم شعبان والنهي عن صوم النصف الثاني منه

في الجمع بين أحاديث
صوم معظم شعبان والنهي عن صوم النصف الثاني منه

السـؤال:
ما الحكمة في إكثاره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من صوم شعبان، وكيف يُدفع التعارض مع ما جاء من النهي عن صوم النصف الثاني من شهر شعبان؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثرَ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ»(١)، وعن أُمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: «كَانَ لاَ يَصُوم فِي السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلاَّ شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(٢).
ويُحمَل صيام الشهر كُلِّه على معظمه؛ لأنَّ «الأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الكُلِّ»، وإن كان اللفظ مجازًا قليلَ الاستعمال والأصلُ الحقيقة، إلاَّ أنَّ الصارف عنها إلى المعنى المجازيِّ هو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ»(٣). وعنها رضي الله عنها قالت: «وَلاَ صَامَ شَهْرًا كَامِلاً قَطُّ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ»(٤)، ويؤيِّده حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «مَا صَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا كَامِلاً قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ»(٥).
والحكمة في إكثاره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من صوم شعبان؛ لأنه شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى الله تعالى وكان النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم يحب أن يُرفع عملُه وهو صائمٌ، كما ثبت من حديث أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله: لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(٦).
ولا يُمنع أن تكون أيَّام التطوُّع التي اشتغل عن صيامها لسفرٍ أو لعارضٍ أو لمانعٍ اجتمعت عليه فيقضي صومَها في شعبان رجاءَ رفع عمله وهو صائمٌ، وقد يجد الصائم في شعبان -بعد اعتياده- حلاوةَ الصيام ولذَّتَه، فيدخل في صيام رمضان بقوَّةٍ ونشاطٍ، وتكون النفس قد ارتاضت على طاعة الرحمن(٧).
هذا، وينتفي التعارض بالجمع بين الأحاديث الدالَّة على مشروعية صوم معظم شعبان واستحبابه وما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ»(٨)، وكذلك النهي عن تقدُّم رمضان بصوم يومٍ أو يومين في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلكَ اليَوْمَ»(٩).
فيُدفع التعارض بما ورد من الاستثناء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بقوله: «إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَه فَلْيَصُمْ ذَلكَ اليَوْمَ»، أي: إلاَّ أن يوافق صومًا معتادًا(١٠)، كمن اعتاد صوم التطوُّع: كصوم الإثنين والخميس، أو صيامِ داود: يصوم يومًا ويفطر يومًا، أو صومِ ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ، وعليه فإنَّ النهي يُحمل على من لم يُدخل تلك الأيَّام في صيامٍ اعتاده(١١)، أي: من صيام التطوُّع.
ويُلحق بهذا المعنى: القضاءُ والكفَّارة والنذر، سواءً كان مطلقًا أو مقيَّدًا إلحاقًا أولويًّا لوجوبها؛ ذلك لأنَّ الأدلَّة قطعيةٌ على وجوب القضاء والكفَّارة والوفاء بالنذر، وقد تقرَّر-أصوليًا- أنَّ القطعيَّ لا يُبطِلُ الظنيَّ ولا يعارضه(١٢).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٠رجب١٤٣٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٢يوليو ٢٠٠٩م


(١أخرجه البخاري في «الصوم» باب صوم شعبان (١/ ٤٧١)، ومسلم في «الصيام» (١/ ٥١٣) رقم: (١١٥٦)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٢أخرجه أبو داود في «الصوم» باب فيمن يَصِلُ شعبان برمضان (٢/ ٥٢١)، والترمذي في «الصوم» باب وصال شعبان برمضان (٧٣٦)، وأحمد (٦/ ٣١١)، من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (٢٣٣٦).
(٣أخرجه البخاري في «الصوم» باب صوم شعبان (١/ ٤٧١)، ومسلم في «الصيام» (١/ ٥١٣) رقم: (١١٥٦)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٤أخرجه مسلم في «الصيام» (١/ ٥١٣) رقم: (١١٥٦)، والنسائي في «الصيام» (٢٣٤٩)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٥أخرجه البخاري في «الصوم» باب ما يُذكر من صوم النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإفطاره (١/ ٤٧١)، ومسلم في «الصيام» (١/ ٥١٣) رقم: (١١٥٧)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(٦أخرجه النسائي في «الصيام» باب صوم النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (٢٣٥٧)، وأحمد (٥/ ٢٠١)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء» (٤/ ١٠٣).
(٧انظر: «لطائف المعارف» لابن رجب (١٣٥).
(٨أخرجه أبو داود في «الصوم» بابٌ في كراهية ذلك (٢/ ٥٢١)، والترمذي في «الصوم» باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان (٧٣٨)، وابن ماجه في «الصيام» باب ما جاء في النهي أن يتقدَّم رمضان بصومٍ إلاَّ من صام صومًا فوافقه (١٦٥١)، وأحمد (٢/ ٤٤٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (٣٩٧).
(٩أخرجه البخاري في «الصوم» باب لا يتقدَّم رمضان بصوم يومٍ ولا يومين (١/ ٤٥٧)، ومسلم في «الصيام» (١/ ٤٨٣)، رقم: (١٠٨٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٠انظر: «المجموع» للنووي (٦/ ٤٠٠).
(١١انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢١٥)، و«سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٣٤٩).
(١٢انظر عدم تعارُض القطعي مع الظنِّي في: «شرح الممتع» للشيرازي (٢/ ٩٥١٩٥٠)، «الفقيه والمتفقِّه» للخطيب البغدادي (١/ ٢١٥)، «المنهاج» للباجي (١٢٠)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٤٢١).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق